
الحوار الاجتماعي في المغرب: رهانات التمثيلية وشروط التعاقد الجديد
في خضم تحولات اقتصادية متسارعة وتوترات اجتماعية متزايدة، يعود سؤال الحوار الاجتماعي في المغرب إلى الواجهة، ليس فقط كأداة لتدبير المطالب القطاعية أو التفاوض حول الأجور، بل كمدخل حيوي لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالمغرب الذي انخرط، منذ سنوات، في أوراش إصلاحية كبرى—من تعميم الحماية الاجتماعية، إلى إصلاح التعليم والتقاعد، مرورًا بمراجعة النموذج التنموي—لا يمكنه بلوغ أهدافه دون إطار تعاقدي جديد يُؤسس لعدالة اجتماعية حقيقية ويعيد بناء الثقة المتآكلة.
واقع مأزوم رغم التراكمات
لا يمكن إنكار أن المغرب راكم تجارب متعددة في مجال الحوار الاجتماعي، من خلال جولات تفاوض دورية واتفاقات ثلاثية الأطراف، كان أبرزها اتفاقات 1996، 2003، 2011، 2019، ثم اتفاق أبريل 2022. غير أن هذه المبادرات، رغم رمزيتها، غالبًا ما افتقرت إلى النفس الاستراتيجي والاستمرارية في التنفيذ. إذ كثيرًا ما يتم توقيع الاتفاقات في سياقات ضغط أو قبيل مواعيد انتخابية، دون أن تُستكمل حلقاتها بتنفيذ فعلي أو بتقييم موضوعي للمكتسبات والاختلالات.
العديد من النقابات، وعلى رأسها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، عبّرت أكثر من مرة عن خيبة أملها من طابع “الموسمية” الذي يطبع الحوار، ومن محدودية التفاعل مع الملفات المطلبية الجوهرية، كتحسين الأجور، ووقف التوظيف بالعقدة، وضمان الحق في التنظيم.
أزمة في التمثيلية والمضمون
يواجه الحوار الاجتماعي أزمة مزدوجة: أزمة تمثيلية، وأزمة مضمون. فمن جهة، ما زالت المشاركة في الحوار محصورة على مركزيات نقابية تقليدية، بعضها يعاني من تراجع التأثير والامتداد الاجتماعي، في وقت تعرف فيه بنية الشغل تغيرًا جذريًا بظهور فئات جديدة من الشغيلة، أبرزها العاملون في الاقتصاد غير المهيكل، والمهن الرقمية، والعمل الحر. هؤلاء لا يجدون لأنفسهم تمثيلًا حقيقيًا على طاولة التفاوض.
ومن جهة أخرى، غالبًا ما يظل مضمون الحوار أسيرًا للبعد المادي المرتبط بالزيادات في الأجور أو تحسين شروط العمل، دون التطرق لأسئلة أعمق تتعلق بإعادة توزيع الثروة، والحماية من الهشاشة، وتوسيع فضاء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبناء منظومة تشاركية لصنع السياسات العمومية.
ما المطلوب: من التهدئة إلى التأسيس
في هذا السياق، يبدو أن الرهان اليوم لم يعد يكمن في “إعادة إطلاق” الحوار الاجتماعي بالشكل التقليدي، بل في إعادة تأسيسه على أسس جديدة:
أولًا، مأسسة الحوار عبر إخضاعه لإطار قانوني واضح، يحدد آجاله، وأطرافه، وآليات التتبع والتنفيذ، بدل الاكتفاء بصيَغ توافقية ظرفية.
ثانيًا، توسيع قاعدة التمثيل لتشمل الفئات الجديدة والفاعلين المدنيين، بما يجعل الحوار أكثر شمولية وعدالة.
ثالثًا، ربط مخرجات الحوار برؤية تنموية واضحة، تُراعي أهداف النموذج التنموي الجديد، وتضمن الالتقائية بين السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
نحو تعاقد اجتماعي جديد
إن المستقبل الاجتماعي للمغرب يتوقف على مدى قدرة الفاعلين المؤسساتيين—حكومة، نقابات، ومقاولات—على الانتقال من منطق التفاوض التقني إلى منطق التعاقد الاستراتيجي. تعاقد يُبنى على التوازن بين الحقوق والواجبات، ويضع في صلب أولوياته مكافحة الهشاشة، وتقليص الفوارق الاجتماعية، وتحقيق الكرامة الاقتصادية للمواطن.
فلا استقرار بدون عدالة، ولا تنمية بدون إشراك، ولا إصلاح بدون ثقة. والحوار الاجتماعي، إن أُعيد له الاعتبار كمؤسسة ديمقراطية تشاركية، يمكن أن يكون رافعة حقيقية لهذا التحول.