التحول الرقمي في المغرب: فرص وتحديات في مواجهة الفجوة الرقمية

0

 

في سياق التحولات التكنولوجية المتسارعة التي تعيد رسم ملامح العالم، يبرز المغرب كفاعل إقليمي يسعى إلى تعزيز مكانته في الاقتصاد الرقمي العالمي. فقد شهدت البلاد، خلال العقدين الأخيرين، طفرة ملموسة في مجال الرقمنة، شملت الإدارة العمومية، والخدمات البنكية، والتعليم، والصحة، والتجارة. هذا التوجه الرقمي، الذي ينسجم مع أهداف التنمية المستدامة ورؤية المغرب الرقمية، أفرز جملة من المكتسبات، لكنه ألقى في المقابل بظلاله على إشكالية الفجوة الرقمية، التي باتت تهدد بتعميق التفاوتات الاجتماعية والمجالية.

أولًا: التحول الرقمي كأداة للتمكين والتنمية:

لا يمكن إنكار أن التحول الرقمي قد أسهم في تحسين جودة حياة المواطن المغربي، عبر تسهيل الوصول إلى الخدمات الإدارية، وتيسير عملية التعلم الإلكتروني، وتمكين الأفراد من استغلال الفرص الاقتصادية على منصات التجارة الإلكترونية. فقد أصبحت الهواتف الذكية، وشبكة الإنترنت، والتطبيقات الرقمية، جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، تتيح التفاعل والتواصل والوصول الفوري إلى المعلومات.

وبفضل توسع البنية التحتية الرقمية، بات بإمكان العديد من الشباب المغربي اليوم الولوج إلى محتويات معرفية غير محدودة، والاستفادة من فرص التكوين عن بعد، والمشاركة في الاقتصاد الرقمي العالمي، سواء من خلال العمل الحر أو تأسيس مشاريع ناشئة.

ثانيًا: الفجوة الرقمية كتحدٍ هيكلي يعمق التفاوتات:

غير أن هذا التطور الرقمي، وإن كان واعدًا، لم ينعكس بشكل متوازن على مختلف شرائح المجتمع المغربي. إذ تبرز الفجوة الرقمية كمشكلة بنيوية تتقاطع فيها المحددات الاجتماعية والجغرافية والتعليمية والاقتصادية. ففي الوقت الذي يتمتع فيه سكان المدن الكبرى ببنية تحتية رقمية قوية، لا يزال سكان القرى والمناطق الهامشية يعانون من ضعف التغطية بشبكات الإنترنت، وقلة التجهيزات، وغياب الوعي الرقمي.

وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الولوج إلى الإنترنت في بعض المناطق القروية لا تتعدى 20%، وهو ما يضع شريحة واسعة من المواطنين خارج دائرة الاستفادة من التحول الرقمي. وبالتالي، فإن هذه الفجوة لا تعكس فقط تباينًا في فرص الوصول إلى التكنولوجيا، بل تكرس نمطًا جديدًا من الإقصاء الرقمي، يوازي في خطورته الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي.

ثالثًا: أبعاد الفجوة الرقمية: تكنولوجية، تعليمية، وثقافية:

تتخذ الفجوة الرقمية أشكالًا متعددة، تتراوح بين نقص البنية التحتية التكنولوجية، وضعف التكوين في المهارات الرقمية، وغياب المحتوى المحلي الموجه للفئات غير المتمدرسة أو ذات المستوى التعليمي المحدود. ففي غياب سياسات تعليمية رقمية موجهة وشاملة، يصبح من الصعب تأهيل الأجيال الصاعدة للاندماج في العصر الرقمي.

كما أن الثقافة الرقمية لا تزال محدودة في الأوساط القروية والمهمشة، وهو ما يجعل التعامل مع التكنولوجيا أمرًا معقدًا، بل في بعض الأحيان مثيرًا للمخاوف أو الرفض. وهذه الفجوة الثقافية تعزز عزلة هذه الفئات عن المنظومة الرقمية، وتحرمها من فرص التعليم، التكوين، والخدمات التي باتت رقمية الطابع.

رابعًا: مسؤولية الدولة في إرساء عدالة رقمية:

يُعد ضمان الولوج المنصف إلى التكنولوجيا الرقمية مسؤولية مركزية للدولة، إذ يتطلب الأمر تبني استراتيجية وطنية متعددة الأبعاد، تقوم على:

توسيع البنية التحتية الرقمية: من خلال تسريع تغطية المناطق القروية والنائية بشبكات الإنترنت ذات الجودة العالية.

إصلاح النظام التعليمي: بإدماج التكوين الرقمي في المناهج الدراسية، منذ التعليم الابتدائي، مع التركيز على المهارات الرقمية العملية.

دعم الأسر الفقيرة: عبر توفير معدات رقمية بأسعار مناسبة، وتمكينها من الاستفادة من برامج التكوين.

تشجيع الشراكة مع القطاع الخاص: لتوسيع مشاريع الرقمنة وتشجيع الابتكار المحلي.

خلق محتوى رقمي محلي: يتناسب مع احتياجات وظروف مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية.

خامسًا: التحول الرقمي كمحرك للتنمية المحلية والاقتصاد التضامني:

يمكن للتحول الرقمي أن يلعب دورًا محوريًا في تحفيز التنمية الاقتصادية، خاصة في المناطق الهشة، إذا ما تم استثماره بشكل عادل. فالتجارة الإلكترونية، مثلًا، تمثل فرصة للمنتجين المحليين والحرفيين لتسويق منتجاتهم خارج الحدود التقليدية. كما أن الرقمنة تسهم في تسهيل الحصول على خدمات صحية عن بعد، خاصة بالنسبة للنساء والمسنين في المناطق النائية.

غير أن كل هذه الإمكانيات تبقى رهينة بمدى توفر الشروط التحتية والبشرية، التي تسمح بتحقيق العدالة الرقمية، وتحول دون احتكار التكنولوجيا من طرف فئات محدودة.

سادسًا: أسئلة تأملية لمستقبل التحول الرقمي:

1. إلى أي مدى يمكن للتحول الرقمي أن يعزز العدالة الاجتماعية بدل أن يكرّس الإقصاء؟

2. ما هي السياسات العمومية المطلوبة لضمان التوزيع العادل للفرص الرقمية؟

3. كيف يمكن إعادة تصميم المنظومة التربوية لتأهيل الأجيال القادمة لاقتصاد المعرفة؟

4. ما الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها المجتمع المدني في مجال التوعية والتكوين الرقمي؟

5. هل يمكن اعتبار الوصول إلى الإنترنت حقًا من حقوق الإنسان في العصر الرقمي؟

 نحو مغرب رقمي للجميع

يشار إن التحول الرقمي ليس خيارًا ترفيهيًا أو تقنيًا صرفًا، بل هو ضرورة حضارية وأداة إستراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. ولضمان استفادة الجميع من هذه الثورة الرقمية، ينبغي التفكير في نموذج شامل يدمج البعد التكنولوجي بالبعد الاجتماعي، التربوي، والثقافي.

فمستقبل المغرب الرقمي مرهون بقدرته على جعل الرقمنة أداة للتمكين الجماعي، لا وسيلة لتعميق الفوارق. وهو ما يتطلب تعبئة شاملة لجهود الدولة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، لبناء مغرب رقمي عادل، منفتح، ومندمج.

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.